لقد نهض عبدالسلام هارون وحده بأعباء ثقيلة وأحسن إلىٰ المتأدبين وأنعم عليهم بمهجته وأنفاس عمره ليتلذذوا بتراث الجاحظ وهم متكئون وادعون، قد استعذبوا منه ما تجرع هو مرارته دونهم، فلاجرم أن حظي بهذه المكانة الرفيعة عندهم. والحق أن طبعة القونوي أكثر صوابها هو من أنفاس "هارون" وعطائه وتعبه، فقد مهد له الطريق وقرّب له البعيد وفرّغه للتعلية والتشييد وكفاه مؤونة التأسيس ومشقته الفادحة ! فالذي أصلحه هارون من طبعة الساسي شيء كثير يصعب حصره والإحاطة به. وماكانت طبعة القونوي لتخرج بهذا المستوىٰ دون الاعتماد على بناء هارون، فقد ابتدأ القونوي من حيث انتهىٰ هارون، والقونوي أول معترف ومُقِرٍّ بهذا الفضل الكبير !
ولكن هذا الكتاب لم تتوفر لهارون جميع أصوله الخطية وقت التحقيق على أن أغلبها متأخرة كثيرة التحريف والتصحيف، فجاء القونوي فتمّمَ مابدأه هارون وكمّله، ورمّم شيئا كثيرا من البناء وجمّله، وهذا نصّ يظهر فيه إحسان القونوي وإجادته:-
صورة من تحقيق هارون:-
ثم انظر إلى آثار القونوي في هذا النص:-
فإذا رأيتَ من يزدري طبعة القونوي فاصفعه بهذه الصورة الدامغة !
والشكل الكامل عند القونوي قد امتحنتُه فوجدته نادر الخطأ نافع جدا للمبتدئين، وهذه خدمة جليلة لعموم القراء !
وماكان تحصيل الأصول الخطية متيسرا، وكان التصوير رديئا وضعيفا حتى إن بعض المحققين كان يُضطر للسفر والارتحال ليعاين الأصل المخطوط مباشرةً كما وقع لمحقق نوادر أبي زيد الأنصاري فقال في مقدمة تحقيقه صفحـ١٣٥ـة :-
ثم تقدم التصوير وتطور إلىٰ درجة عالية الدقة، فلاجرم أن يتأتىٰ للقونوي من التدقيق مالم يتأتّ لهارون، كما في كلمة: "المتتبع" و"المتتيع" بالباء والياء، فالأغلب أن مثل هذا لم يكن واضحا في التصوير الرديء لذلك العهد، فأبقاها هارون كما هي في طبعةالساسي صفحـ٤٤ـة:
وطبعة هارون صفحـ٨٩ـة:
ثم تيسر للقونوي من دقة التصوير وجودته مالم يتيسر لهارون فرآها: "بالمتتيع" بالياء كما في صفحـ٧٠ـة من طبعته:-
وما أثبته القونوي هو المتعين هنا لأن غير المتتبع الذي لايراجع كتبه غير عجيب ألا يتفطن لعيوبه، وإنما العَجَب في غير "المتتيع" وهو المتثبّت المتروّي الذي يدقق كتابه كيف يغفل عن عيوبه لشدة إعجابه به كما يُعجب الوالد بولده ويُفتن به، والتتيّع بالياء يتضمن العجلة في بث الكتاب ونشره، فهو ضدّ التتبع بالباء.
وقليل العلم ينفع صاحبه ويرفعه إذا صحبه التواضع والأدب، والعلم الكثير يُهلك صاحبه إذا قارنه الكبر والعُجب. ونحن إلىٰ قليل من العمل والأدب أحوج منا إلىٰ كثير من العلم والكبر.
وليعلم الناقم أن المكر السيء لايحيق إلا بأهله، وأن الله يغار علىٰ الحق أن يُطمس حتىٰ لايُعرف. ﴿قُلۡ جَاۤءَ ٱلۡحَقُّ وَمَا یُبۡدِئُ ٱلۡبَـٰطِلُ وَمَایُعِیدُ﴾